عنوان: رد إنكار إمكان رؤية رسول الله في الدنيا يقظة
بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
بسم الله الرحمن الرحيم
يأبى بعض الناس إلا الجزم بعدم إمكان رؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في الدنيا يقظة، ويشنِّع على المخالف مستشهدا بقول الحافظ السخاوي رحمه الله –كما في: “المواهب اللدنية”(5/295)- : “لم يصل إلينا ذلك ـ يعني:ادعاء وقوعها ـ عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم! وقد اشتد حزن فاطمة عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا بعده بستة أشهر على الصحيح وبيتُها مجاور لضريحه الشريف، ولم تنقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه“أ.هـ.
ويُرد بشيئين:
أولهما: أنه ممكن عقلا وشرعا،
-فأما الإمكان العقلي:فإن العقل إن خُلِّي ونفسَه لم يَحْكم بإمتناع رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
-وأما الإمكان الشرعي:فلأن الرؤية تأتي على صورتين:
*الأولى:رؤية مثال الجسد.وهذه وقعت لسيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء عند رؤيته لهم في معراجه،وصلاته بهم في المسجد الأقصى، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : “وَقَدْ رَأيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّى فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَائِمٌ يُصَلِّى أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي : نَفْسَهُ – فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَمْتُهُمْ“]رواه مسلم في: “الصحيح”(رقم:172)[ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : “فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي فَالْتَفَتَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ” ]رواه أحمد في: “المسند”(4/167)[، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في: ” فتح الباري “(7/210) : “وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات ، مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض ، وأجيب : بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم ، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفاً له وتكريماً”أهـ .
ويرجَّح حمل الرؤية على تشكُّل الأرواح حديث أبي هريرة، وفيه: “فلقي أرواح الأنبياء”]رواه البيهقي في: “دلائل النبوة”(2/40)[قال الشمس الصالحي رحمه الله تعالى في: “خلاصة الفضل الفائق”(ص/250-إسبر) : “فيه دليل على تشكُّل الأرواح على صور أجسادها في علم الله تعالى”أ.هـ المراد.وبه قال جماعة، ومنهم الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في: “شرح البخاري”(2/113) بقوله: “والذي رآه في السماء من الأنبياء عليهم السلام : إنما هو أرواحهم ، إلا عيسى ، فإنه رفع بجسده إلى السماء”أ.هـ . والتقي ابن تيمية رحمه الله تعالى –كما في: “مجموع الفتاوي”( 4 / 328) بقوله: “وأما رؤيته – أي : رؤية موسى عليه السلام – ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء ، لما رأى آدم في السماء الدنيا ، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، أو بالعكس : فهذا رأى أرواحَهم مصوَّرة في صور أبدانهم .
وقد قال بعض الناس : لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور ؛ وهذا ليس بشيء”أ.هـ .
*الثانية: رؤية الجسد.وهو محمل ثانٍ لرؤية ولقيا سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم للأنبياء في قصة الإسراء والمعراج كما سبق،ويؤيده حديث عبدالرحمن بن هاشم عن أنس رضي الله عنه قال: “وبعث الله له آدم فمن دونه من الأنبياء”]
رواه البيهقي في:”الدلائل”(2/362)[.
فدل ما سبق على جواز وقوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم،وأنه-أي:الجواز- ليس ممتنعا لا عقلا ولا شرعا، وفي ذلك يقول ملا علي القاري رحمه الله تعالى في: “جمع الوسائل”(2/299) : “إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لا يستلزم خروجه من قبره ، لأن من كرامات الاولياء كما مر أن الله يخرق لهم الحجب فلا مانع عقلاً ولا شرعاً ولا عادة أن الولي وهو بأقصى المشرق أو المغرب يكرمه الله تعالى بأن لا يجعل بينه وبين الذات الشريفة وهي في محلها من القبر الشريف ساتراً ولاحاجباً ، بأن تجعل تلك الحجب كالزجاج الذي يحكي ما وراه ، وحينئذ فيمكن أن يكون الولي يقع نظره عليه عليه الصلاة والسلام ، ونحن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره يصلي“أ.هـ.
ثم إذا جازت الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء معجزةً-كما في الإسراء والمعراج- جاز للأولياء كرامةً،وهو أصلٌ قرَّره العلماء بقولهم: “كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي“-كما قاله السعد التفتازاني رحمه الله تعالى في: “شرح المقاصد”(2/203) وغيره-،وإن وقع النزاع في منتهى عموم هذا الأصل(1) فلا خلاف في مسألتنا؛ لذا قال النفراوي رحمه الله تعالى في: “الفواكه الدواني”( / ) : “يجوز رؤيته – عليه الصلاة والسلام- في اليقظة والمنام باتفاق الحفاظ، وإنما اختلفوا هل يرى الرائي ذاته الشريفة حقيقة أو يرى مثالا يحاكيها , فذهب إلى الأول جماعة وذهب إلى الثاني : الغزالي والقرافي واليافعي وآخرون، واحتج الأولون بأنه سراج الهداية ونور الهدى وشمس المعارف كما يرى النور والسراج والشمس من بُعد , والمرئي جِرْم الشمس بأعراضه فكذلك البدن الشريف , فلا تفارق ذاته القبر الشريف , بل يَخْرق الله الحُجُب للرَّائي ويُزيل الموانع حتى يراه كل راء ولو من المشرق والمغرب , أو تجعل الحجب شفافة لا تَحْجب ما وراءها“أ.هـ المراد.
والثاني: أن في المسألة حديثا، فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي”]رواه البخاري في:”الجامع”(رقم: 6592)وغيره[.قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في: “شرح البخاري”(12/383) : “قال ابن بطال:قوله (فسيراني في اليقظة) يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة، فتراه جميع أمته من رآه في النوم ومن لم يره منهم. وقال ابن التين: المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه. فيكون بهذا مبشِّرا لكل من آمن به ولم يره أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته“أ.هـ.
وشرح الحديث منتصرا لمعناه السابق الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في جزء مفرد سماه: “تنوير الحلك فى إمكان رؤية النبي والملك”
وقد حكى جمع تحقُّق تلك الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لعدد من الصالحين،يقول الآلوسي رحمه الله تعالى في: “روح المعاني”(22/36) : ” قد وقعت رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة “أ.هـ المراد.ونقله الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في: “تنوير الحلك”-كما في: “الحاوي في الفتاوي”(2/258)-عن جماعة، وقال: “وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في (القواعد الكبرى)، وقال ابن الحاج في (المدخل) : رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيق وقلَّ من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان، بل عدمت غالبا، مع أننا لا ننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله في ظواهرهم وبواطنهم”أ.هـ المراد.
والله أعلم
———–
<!–[if !supportLists]–> (1) <!–[endif]–>قال القشيري رحمه الله تعالى: “إن كثيرا من المقدورات يُعلم اليوم قطعا أنه لا يجوز أن يَظْهر كرامةً للأولياء؛ لضرورة أو شبهة ضرورة يعلم ذلك، فمنها: حصول إنسان لا من أبوين، وقلب جماد بهيمة أو حيوانا، وأمثال هذا كثير” أهـ وعقَّب السبكي بقوله :“وهو حق لا ريب فيه، وبه يتَّضح أن قول من قال: ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي؛ ليس على عمومه” أهـ.وانظر في: “فتح الباري”(7/383)
تمت بحمد الله