الوصف
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للعالمين وعلى آله وصحبه المتقين ، وبعد:
فإن تلقين الميت البالغ الشهادة في قبره عقب دفنه قد استحبه الأكثر، واشتهر العمل به . قال الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى في : (الفروع) : ( 3 / 383 ) : (وأما تَلْقينُه بعد دَفْنِهِ: فاستحبَّه الأكثر(و م ش))ا.هـ. وقوله : ( و م ش ) رَمَزٌ إلى موافقة السادة المالكية والشافعية للحنابلة في استحباب التلقين ـ كما في : (1/7) من (الفروع) ـ . وقد قَرَّره عن السادة المالكية جماعة، ومنهم : الحطاب في : (مواهب الجليل) (3/ ) . وعن السادة الشافعية جماعة ، ومنهم الشمس الرملي في : (نهاية المحتاج) (3/41).
وقد كان العمل بالتلقين معروفاً، فقد روى سعيد بن منصور في : (السنن) عن راشد بن سعد القرائي ـ وهو تابعي فقيه كما في : (سير النبلاء) (4/490) ـ : (كانوا يَسْتَحبُّون أن يقال عند قبره: يا فلانَ، قل : لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله ، ثلاث مرات، يا فلان، قل : ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّ محمد) وكذا الرواية عن ضمرة بن حبيب الزبيدي (ت:130) ، وحكيم بن عُمير العَنَسي رحمهما الله تعالى، بل قال عبد الغني الغنيمي الدمشقي الحنفي رحمه الله تعالى في : (اللباب في شرح الكتاب) (1/125) : (وأما تلقينه ـ أي : الميت ـ في القبر فمشروع عند أهل السنة؛ لأن الله تعالى يحييه في قبره) ا.هـ.
إلا أنه اشتهر عند أهل الشام في زمن الاقتداء، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في : (المجموع شرح المهذب) (5/275) : (ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به وإلى الآن) أ.هـ. وفي ذلك يقول الإمام أحمد رضي الله عنه ورحمه ـ كما في : (المغني) (3/438) ـ : (ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال: ذاك. وكان أبو المغيرة يَرْوي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه) .
ودليل استحباب التلقين عند الفقهاء هو حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وذلك ما رواه الطبراني في : (المعجم الكبير) (8/249) بسنده إلى سعيد بن عبدالله الأزدي أنه قال : شهدتُ أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النـزع . فقال: إذا مِتُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله ? فقال : إذا مات أحد من إخوانكم فسوَّيْتُم التراب على قبره فلَْيَقُم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يَسْمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً. ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يقول : أرشدنا رحمك الله ولكن لا تشعرون: فلْيَقُل: اذكر ما خَرَجْتَ عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً وبالقرآن إماماً. فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما نقعد عند من لُقِّن حجته فقال رجل: يا رسول الله فإن لم نعرفه أمه؟ قال: فينسبه إلى أمه حواء، يا فلان ابن حواء) والمشهور ضعف سند الحديث عند المحدثين، لذا قال النووي في : (المجموع) (5/274) : (إسناده ضعيف) ا.هـ. وقال في : (خلاصة الأحكام) (2/1029) : (ولم يثبت فيه شيء على الخصوص. وإنما روى الطبراني فيه حديثاً ضعيفاً من رواية أبي أُمامة مرفوعاً) ا.هـ. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في : (زاد المعاد)(1/522) : (وأما الحديث الذي رواه الطبراني في : (معجمه) في حديث أبي أمامة عن النبي ? .. فهذا حديث لا يَصِح رفعه) ا.هـ.
ولكن هاهنا شيئان:
ـ أولهما : أن سند الحديث صالح للتَّقْوية؛ لذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في : (التَّلْخيص الحبير) (2/270) : (وإسناده صالح) وقد قَوَّاه الضياء في : (أحكامه) ا.هـ.
وما كان كذلك فيُتَسَامَح فيه في باب الفضائل وما إليه، والحديث فيه فضيلة التَّلْقين؛ لذا قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في : (المجموع شرح المهذب) (5/274) : (هذا الحديث وإن كان ضعيفاً فيستأنس به وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب) ا.هـ. المراد.
ـ والثاني : أن للحديث ما يَشْهد لصحة معناه. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في :(المجموع) (5/275) : (وقد اعتضد ـ أي : حديث التلقين ـ بشواهد من الأحاديث، كحديث : (واسألوا له التثبيت) ووصية عمرو بن العاص، وهما صحيحان) ا.هـ المراد والحديثان أوردهما النووي في قوله ـ كما في : (خلاصة الأحكام) (2/1027 ـ 1028) ـ (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : كان النبي ? إذا فرغ من دفن الميِّت وقف عليه، فقال: (استغفروا لأخيكم وسَلَوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل) رواه أبو داود بإسناد حسن. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : فإذا دفنتموني فسنُّوا عليَّ التراب سنَّاً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنْحَر جزور، وتُقْسَمُ لَحْمُها حتى استأنس بكم وأعلم ماذا أُراجع به رُسُل ربي(رواه مسلم) ا.هـ.
وفي ذلك يقول الإمام ابن الملقِّن رحمه الله تعالى ـ كما في : (خلاصة البدر المنير) (ص/ ) : (رواه الطبراني في أكبر معاجمه هكذا. وليس في إسناده إلا سعيد بن عبد الله فلا أعرفه، وله شواهد كثيرة يَعْتضد بها) ا.هـ المراد.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في : (التلخيص الحبير) (2/270_قطب): (ولكن للحديث شواهد، منها : ما رواه سعيد ابن منصور من طريق راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وغيرهما قالوا: (إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: (يا فلانَ قل: لا إله إلا الله. قل: أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات. قل : ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد، ثم ينصرف) …) ا.هـ.
وأثر راشد وضمرة وحكيم بن عمير قال عنه الشوكاني رحمه الله تعالى في : (نيل الأوطار) (4/11 ـ صبابطي) : (قوله : (وعن راشد وضمرة، هما تابعيان قديمان، وكذلك حكيم بن عمير، وكل الثلاثة من حمص. قوله : (كانوا يستحبون) ظاهره: أن المستحب لذلك الصحابة الذين أدركوهم) ا.هـ المراد .
والخلاصة: صِحَّة استحباب التَّلْقِين وإن كان سند الحديث ضعيفاً، وهو ما أَجْمَلَهُ جماعة من الأئمة، ومنهم الإمام ابن الصلاح رحمه الله تعالى، حيث قال النووي في : (المجموع) (5/274) : (وسئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عنه ـ أي : تلقين الميت الشهادة بعد دفنه ـ فقال : (التلقين هو الذي نختاره ونعمل به) قال : (ورُوِّيْنا فيه حديثاً من حديث أبي أمامة ليس إسناده بالقائم، لكن اعتضد بشواهد ، وبعمل أهل الشام قديماً) هذا كلام أبي عمرو) ا.هـ وبمثله في : (الأذكار) (ص/229 ـ حاكمي) للنووي رحمه الله تعالى.
ألَّف في المسألة جماعة :
ـ فمن المتقدمين : التاج الفاكهاني المالكي رحمه الله، حيث صَنَّف جزءاً سماه : (بَلَج اليقين في الحَثّ على التَّّلقين) . وفيه حكى عن شيخه أبي علي البجائي أنه سمعه وقد سُئل عن تلقين الميت بعد الدفن يقول : (كان السلف إذا دُفِن الميت وقفوا عنده . أو قال : عند قبره . فيقولان : يا فلان! لا تنس ما فارقتنا عليه في دار الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله . أو كلاماً ذا معناه) ـ كذا في : (الإيضاح) (ص/183) .
ـ ومن المتأخرين : الحافظ السخاوي الشافعي رحمه الله، حيث له جزء سماه : (الإيضاح والتبيين بمسألة التلقين) وفيه ذَكَر ما يَشْهد لحديث أبي أمامة ويقوِّيه ثم قال : (ص/185 ـ تحقيق : يعقوبي) : (فهذه أحد عشر عاضداً يعتضد بها حديث أبي أمامة، وتُقوِّي الاستدلال به على استحباب التلقين ـ خلافاً لما قاله الشيخ عز الدين بن عبدالسلام في : (فتاويه) ـ حيث جَزَم بأنه لم يصح في التلقين شيء! قال : وهو بدعة) ا.هـ .
فائدة : قال ابن القيم رحمه الله في كتابه : (الروح) (ص/39) : (فهذا الحديث ـ يعني: حديث أبي أمامة ـ وإن لم يثبت فاتصل العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كافٍ في العمل به) ا.هـ . وقال قَبْلُ فيه : (الروح) (ص/38) : (ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثاً . وقد سئل عنه الإمام أحمد فاستحسنه واحتج عليه بالعمل) ا.هـ . وقرَّر التقي ابن تيمية رحمه الله إباحة التلقين وعدم كراهته كما في : (مجموع الفتاوي) (24/297) وحكاه عنه الشمس ابن مفلح رحمه الله في : (الفروع) (2/216) .
هذا، والله أعلم .والحمد لله رب العالمين.
تمت بحمد الله
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.