الوصف
الفصل الثالث: في أدب المتعلّم
…….
المطلب الأول: في أدب المتعلم مع نفسه، وفيه عشرة آداب:
الأول: تطهير الباطن.
حقيقته: وهو تخلية القلب مما يمنع قبول العلم (حفظا) و(فهما)، كفساد معقد، وحقد وحسد.
دليله: ودليل الأمر به القياس على الصلاة؛ لأن العلم صلاة السِّر، وعبادة القلب، فكما لا تصحّ الصلاة إلا بالطهارة من الحدث والخبَث، وهما مفسدان للصّلاة في الظاهر، فكذلك لا يصحّ العلم إلاّ بالطهارة من مفسدات قبوله، وهي (خبث الصفات) و(حدث مساوئ الأخلاق).
ويؤكِّده قول العارف بالله سهل التُّسْتَري – رحمه الله تعالى-(حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عز وجل).
وسيلة تحصيله: ويعين عليه ترقُّبُ ثمرة (تطهير الباطن) ؛ إذ إن القلب إذا طُيِّب للعلم ظهرت بركته وزاد كالأرض إذا طُيِّب للزرع زاد زرعها وزكا ، وفي الحديث: “إن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب” [البخاري: 1/12 ].
الثاني: تحسين النية.
حقيقته: وهو طلب ما يُسْتحسن في الشرع بالعلم ، كالعمل به والدعوة إليه ، والتقرّب إلى الله.
دليله: وبرهان ذلك أن العلم عبادة ، وتحسين القصد فيها مأمور به ، فلا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة ، وتصدير المرء في المجالس ، ومباهاة الأقران ، فيستبدل به الأدنى بالذي هو خير ، وقال سفيان الثوري – رحمه الله تعالى – : “ما عالجت شيئا أشد علي من نيّتي”.
وسيلة تحصيله: ومعرفة كون فساد النِّيَّة وعدم الإخلاص: جالبا لحبوط العمل ، وخسارة الصَّفْقة فيه مع الله: يجعل المتعلم مخلصا في طلبه للعلم ، حَسَنَ القصد فيه.
ويؤكّده الحسُّ المشاهَد ، يقول القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم – صاحب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه – رحمه الله تعالى: “يا قوم! أريدوا بعلمكم الله تعالى ، فإني لم أجلس مجلسا أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم ، و لم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح”.
الثالث: اغتنام أوقات العمر في التحصيل.
حقيقته: وهو أن يبادر إلى العلم وتحصيله ، ويملأ به أوقات عمره و لا يغر بخُدَع التسويف والتأميل ، ولا يقف عند العلائق المشغلة عن الطلب ، ولا ينقطع عند العوائق التي تمنعه عن تمام التحصيل.
علته: وذلك أن العلم كثير ، والعمر قصير ، وكل ساعة تمضي من العمر لا بَدَلَ لها ، ولا عِوض عنها.
وسيلة تحصيله: ولا بد من جمع القلب ، واجتماع الفكر: لنيل العلم ؛ لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن إدراك حقائق العلم ودقائقه؛ لذا قيل “العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك” ، وقال الإمام الشافعي -رضي الله عنه – : “لو كلِّفت شراء بصلة لما فهمت مسألة”.
الرابع: القناعة بما تيسّر من العيش.
حقيقته: وهو أن تعتاد النفس الرضا بما يقع لها من أمر المعاش وإن قلّ!
علّته: لأن القناعة بما تيسّر و إن كان يسيرًا: يجمع شمل القلب عن مفترق الآمال ، قال الإمام أبو حنيفة – رضي الله عنه – : (يستعان على الفقه بجمع الهَمِّ ، ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة، ولا يزد).
وسيلة تحصيله: تُحَصَّل القناعة بتوطين النفس على ضيق العيش مع الصبر عليه ، قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه – : ( من طلب العلم بذْل النفس ، وضيق العيش ، وخدمة العلماء: أفلح).
الخامس: تقسيم أوقات يومه على وظائف التّعَلُّم.
حقيقته: وهو أن يُقسِّم وظائف التعلّم من حفظ وفهم وكتابة على أوقات ليله ونهاره.
علّته: إذ إنه من اغتنام العمر حق الاغتنام.
وسيلة تحصيله: ويكون ذلك بمعرفة الأوقات وما يناسبها من وظائف المتعلِّم ، حيث إن أجودها للحفظ الأسحار , وللبحث الأبكار ، وللكتابة وسط النهار ، وللمطالعة والمذاكرة الليل. قال الحافظ الخطيب البغدادي – رحمه الله تعالى – : ( أجود أوقات الحفظ الأسحار ، ثم وسط النهار ، ثم الغداة ، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار ، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعيد عن الملهيات).
السادس: إعطاء الجسم حاجته من الأكل والشرب دون إكثار.
حقيقته: وهو أن يأكل ويشرب قدر حاجته دون زيادة ، والعادة أن يكون ذلك يسيرًا في العرف.
علّته: وسببه أن الإكثار من الطعام والشراب موجب لمضار على البدن كقصور الذهن ، وفتور الحواس ، وكسل الجسم ، هذا مع ما فيه من الكراهة الشرعية.
ويؤكده واقع الأئمة العلماء ، قال الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى – : (ما شبعت منذ ست عشرة سنة).
وسيلة تحصيله: وبالتأمّل في آفات كثرة الطعام والشراب إعانة على التقلّل منه ، وفي الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه ، بحسب ابن آدم لُقَيْمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه). [رواه الترمذي، 26/287 ]
السابع: أخذ النفس بالورع.
حقيقته: وهو الاحتياط في شأن الديانة بترك المناهي والتزام الأوامر ، والتحرّي عند الاشتباه في الأمر كله.
علّته: ذلك لأن الورع ينير قلب صاحبه ، ويجعله مُنْتَفِعًا بالعلم.
وسيلة تحصيله: ويعين عليه الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – والعلماء الصالحين ، وأحقُّ من اقتدي به في ذلك سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، حيث لم يأكل التمرة التي وجدها في الطريق خشية أن تكون من الصدقة مع بُعْد كونها منها!
الثامن: الابتعاد عن استعمال ما يضرّ بقوة الجسم والذهن من مآكل ومشارب.
حقيقته: وهو الحذر من استعمال المطاعم والمشارب الجالبة لأسباب البلادة ، وضعف الحواس.
علّته: وذلك لأن صحة البدن , وجودة الذهن ضروريان في التعلّم.
وسيلة تحصيله: وبمعرفة ما ينبغي استعماله من مأكول ومشروب وما لا ينبغي في ذلك تحصيل للمراد ، فممّا لا ينبغي استعماله كل ما يُكْثِرُ البَلْغَم ، ككثرة الألبان ؛ لأن كثرة البلغم تبلّد الذهن ، وتُثْقِل البدن. ومما يجيد الذهن مضغ اللّبان والمصطكى باعتدال، وأكل الزبيب وقت البكور. والاستفادة من المجربات حسن.
التاسع: إراحة النفس عند الحاجة.
حقيقته: وهو إراحة النفس من عناء التحصيل بقدر حاجتها.
علّتهُ: لأن النفس مطية (أي مركب) الإنسان، فلا بد من إراحتها و إلا انقطعتْ به ، وقديما قيل: ( المُنْبَتُّ – أي: المسرع- لا ظَهرًا أبقى ولا أرضا قطع)، وفي الحديث: (إن لنفسك عليك حقّا).
وسيلة تحصيله: وذلك يتحقق بشيئين:
الأول: إعطاء النفس حاجتها المعتادة لكن باعتدال ، كالنوم مثلا، ويكفيه ثُلُثُ ساعات اليوم – أي: ثماني ساعات-، وإن احتمل حاله أقلّ فعل ما لم يلحقه ضرر.
والثاني: أن يريح بدنه وذهنه عند تعب أو ملل أو ضعف بشيء من النزهة ونحوها ؛ بحيث يعود إلى حاله من النشاط والإقبال على العلم. و كان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه أحيانا ويتمازح معهم بما لا يضرّ في دين ولا مروءة.
العاشر: ترك مخالطة الناس إلا المنْتَفَع بعشرته.
حقيقته: وهو مخالطة من يستفيد منه الطالب ويفيده.
علّته: لأن المرء يتأثّر بمن يعاشره ، ويسرق عنه طباعا، وتُذْهِبُ العشرة العمر في غير فائدة. و في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ( اُغد عالما أو متعلّما ولا تكن الثالث فتهلك ).
وسيلة تحصيله: ويكون ذلك من خلال خصلتين:
الأولى: اختيار صحبة صالحة في دينها وعشرتها وإعانتها على العلم.
والثانية: البُعْد عمن تضر مؤاخاته، ومن لا يُنْتَفَعُ بصحبته ، مع التلطّف في قطع عشرته قبل تمكّنها ، فإن الأمور إذا تمكّنت عَسُرَتْ إزالتها ، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء قولهم: (الدفع أسهل من الرفع).
————–
** تم حذف الحواشي [مكتب خادم الشريعة]
تمت بحمد الله
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.