إبطال إنكار قيام المسلم لأخيه عند السلام

 

عنوان: إبطال إنكار قيام المسلم لأخيه عند السلام

بقلم:  (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

         أنكر بعض ما شاع بين المسلمين من قيامهم لبعض عند السلام، مستدلين بقول سيدنا أنس (رضي الله عنه):” لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك”    [ رواه الترمذي في:” السنن ” (5/90) وقال: هذا حديث حسن صحيح” ا.هـ ]

ويُبطل بأن قيامهم عند السلام لبعض إكراهاً واحتراماً قد دلت السنة الشريفة عليه من جهات:

       

       فالأولى: قوله (صلى الله عليه وسلم)، حيث قال (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه عند مجيء سعد بن معاذ (رضي الله عنه):” قوموا إلى سيدكم.” [ رواه البخاري في:” الصحيح” (4/28) ومسلم في:” الصحيح” (7/135)] ، قال النووي (رحمه الله تعالى) في:” شرح مسلم” (12/93):” في الحديث إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا. هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام ” ا.هـ المراد.

 

        والثانية: فعله (صلى الله عليه وسلم). فعن السيدة عائشة بنت الصديق (رضي الله عنهما) قالت: ” ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله (صلى الله عليه وسلم) من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم ورضي عنها) قالت: وكانت إذا دخلت على النبي (صلي الله عليه وسلم) قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (صلي الله عليه وسلم) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها” [ رواه أبو داود في” السنن” (4/355) والترمذي في:” السنن” (5/700) وقال: هذا حديث حسن. وصححه الحاكم في “المستدرك” (3/154) ووافقه الذهبي ]. وعن عائشة أيضاً قالت:” قدم زيد بن حارثة (رضي الله عنه) المدينة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاعتنقه وقبله. [ رواه الترمذي في:” السنن” ( رقم:2732) ]. وحديث السيدة فاطمة (رضي الله عنها) ( من أصرح الأدلة في المسألة) كما قاله النووي (رحمه الله تعالى) في:” الترخيص في الإكرام بالقيام” ( ص/ 41)

 

        والثالثة: تقريره (صلى الله عليه وسلم). فعن كعب بن مالك (رضي الله عنه) ـ في حديث توبته الطويل ـ أنه قال :” وانطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة” [ رواه البخاري في:” الصحيح” (8/113)، ومسلم في:” الصحيح” (4/2128) ] وفيه تقرير للقيام من النبي (صلى الله عليه وسلم) حين فعل بحضرته، كما قال النووي (رحمه الله تعالى) في:” الترخيص” ( ص/ 48).

 

         وبما سبق يثبت القيام من فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنفسه الكريمة، وبأمره بذلك للأنصار، وبتقريره حين فعل بحضرته. قاله النووي في:” الترخيص” (ص/48)، وقال:” وثبت القيام من فعل جماعات من الصحابة (رضي الله عنهم) في مواطن وجهات مختلفة، ومن جهة أئمة الناس في أعصارهم في الحديث والفقه والزهد” ا.هـ المراد.

وعلى ذلك مقرّرات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم؛ فمن الحنفية ابن عابدين (رحمه الله) في:” الحاشية” (5/246)، وابن نعيم (رحمه الله) في:” البحر الرائق” (8/198)، ومن الشافعية النووي (رحمه الله) في:” الروضة”(10/236)، والخطيب الشربيني (رحمه الله) في:” مغني المحتاج”(4/216)، وزكريا الأنصاري (رحمه الله) في:” أسنى المطالب” (4/186)، وابن حجر الهيتمي (رحمه الله) في:” نهاية المحتاج” (8/51)، ومن الحنابلة الشمس ابن مفلح (رحمه الله) في:” الآداب الشرعية” (1/430)، ومرعي الكرمي (رحمه الله) في:” غاية المنتهى” (1/283)، والرحيباني (رحمه الله) في:” مطالب أولى النهى” (1/943).

 

         ثم إن المسلمين اليوم قد اعتادوا إكرام بعضهم بالقيام عند السلام بحيث إن تركه يعد من الإهانة وعدم الاحترام، يقول الحافظ ابن حجر (رحمه الله) في:” الفتح” (11/54): ” وفي الجملة:متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع ” ا.هـ . وكذا في:” مختصر الفتاوي المصرية لابن القيم” ( ص/563) ، وقال التقي ابن تيمية (رحمه الله) ـ كما في:” مجموع الفتاوي” (1/374) ” وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ، ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد حفضه” فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء ” ا. هـ المراد.

 

         وأما استدلال بعضهم بحديث أنس:” لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته ذلك” . فجوابه ما قاله النووي رحمه الله في:” الترخيص” (ص/64): ” أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خاف عليهم وعلى من بعدهم الفتنة بإفراطهم في تعظيمه (صلى الله عليه وسلم)، كما قال (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآخر:” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم” ، فكره (صلى الله عليه وسلم) قيامهم له لهذا المعنى ولم يكره قيام بعضهم لبعض، بل قام (صلى الله عليه وسلم) لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته ولم ينه عن ذلك، بل أمره وأمر به في حديث القيام لسعد ” ا.هـ المراد.

 

          واحتجاج بعض بحديث: ” من سره أن أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار” [ رواه أبو داود في:” السنن” (4/358) ، والترمذي في:” السنن” (5/90) وحسنه ، وأحمد في:” المسند” (4/93) ]( فقد أولع أكثر الناس بالاحتجاج به) كما قال النووي في:” الترخيص” (ص/67)، وليس في محل البحث فلا حجة فيه، يقول الطبري (رحمه الله) ـ كما في:” الفتح” (11/50) ـ :” في الحديث نهي من يقام له عن السرور بذلك، لا نهي من يقوم له إكراماً له” ا.هـ ويقول النووي رحمه الله في:” الترخيص” (ص/67) :” ليس في الحديث دلالة للمنع من القيام ، وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه الزجر الأكيد، والوعيد الشديد الإنسان أن يحب قيام الناس له، وليس فيه تعرض للقيام بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، وهو أن لا يحل للآتي أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته للقيام، ولا يشترط كراهته لذلك، خطور ذلك بباله،حتى إذا لم يخطر بباله ذلك فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه ” ا.هـ المراد

ويقول الشمس ابن مفلح (رحمه الله) في:” الآداب الشرعية”(1/158):” النهي في الحديث ـ قد وقع على السرور بذلك الحال، فإذا لم يسر بالقيام إليه وقاموا له فغير ممنوع منه” ا.هـ.

       

      وعلى كل فلم يصح في النهي عن القيام شيء صريح كما قال النووي في:”شرح مسلم” (12/93) وقد نص فقهاء على استحباب القيام لأهل الفضل إكراماً واحتراماً، قال الخطابي (رحمه الله) في:” معالم السنن” (8/82) عند حديث:” قوموا إلى سيدكم ” فيه أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل، وللوالي العادل، وقيام المتعلم للعالم ـ مستحب غير مكروه” ا.هـ  . وبمثله قال البغوي (رحمه الله) في:”شرح السنة” (12/295)، وقال النووي في:” الروضة” (10/236):” وأما القيام فالذي نختاره أنه مستحب لمن فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو ولاية مصحوبة بصيانة، ويكون على وجه البر والإكرام لا للرياء والإعظام” أ. هـ .

 

هذا، والله أعلم

تمت بحمد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *