عنوان: إبطال كون السُّبْحة بدعة منكرة
بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
بسم الله الرحمن الرحيم
حرَّم جماعة عدَّ الذِّكْر بالسُّبحة وجعلوها بدعة مُنْكَرة، حتى قال صاحب رسالة: “السبحة تاريخها وحكمها” ما نصه: “لا يَسْتريب منصف أن اتخاذ السُّبْحَةِ لتعداد الأَذكار: تشبه بالكفار, وبدعة مضافة في التعبد بالأَذكار والأوراد, وعدول عن الوسيلة المشروعة: ((العَدَّ بالأنامل)) التي دَلَّ عليها النبي r بقوله وفعله, وتوارثه المهتدون بهديه المقتفون لأَثره إلى يومنا هذا, وإلى هديه r يُرد أمر الخلاف, وبه يتحرر الصحيح عند النزاع“…إن من وقف على تاريخ اتخاذ السبحة, وأنها من شعائر الكفار من البوذيين, والهندوس, والنصارى, وغيرهم وأنها تسربت إلى المسلمين من معابدهم؛ علم أنها من خصوصيات معابد الكفرة, وأن اتخاذ المسلم لها وسيلة للعبادة, بدعة ضلالة, وهذا ظاهر بحمد الله تعالى .
وهذا أهم مَدْرَكٍ لِلْحُكْم على السُّبْحَة بالبدعة, لم أر من تعرض له من المتقدمين سوى الشيخ محمد رشيد رضا – رحمه الله تعالى – فمن بعده من أصحاب دوائر المعارف فمن بعدهم, ولو تبين لهم هذا الوجه لما قرر أحد منهم الجواز, كما هو الجاري في تقريراتهم في الأحكام, التي تحقق مناط المنع فيها: التشبه .أ.هـ.
وهذا التحريم لسُبحة الذِّكْر-اسم لخَرَز منظوم،كما في: “تهذيب الأسماء واللغات”(ص/ )- منكرٌ عند الفقهاء من جهتين:
أما الأولى: فكونه قولا شاذا غير معتبر،يقول الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في: “المنحة في السبحة”(ص/ 47 ) : “لم يُنقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عَدّ الذكر بالسبحة ، بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروها “أ.هـ. وفي “فيض القدير”(4/355) “:ولم ينقل عن أحد من السلف ولا الخلف كراهتها“أ.هـ.ويقول ابن علان رحمه الله تعالى في:”الفتوحات الربانية”( 1/ 251) : “لايُعتدّ بقول من عدّها –يعني: السبحة-بدعة”أ.هـ.
وقد ساق الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في جزء: “المنحة في السبحة”-كما في: “الحاوي في الفتاوي”(2/2)-آثارا في عَدِّ الذِّكْر بالنوي وغيره فقال:”وفي جزء هلال الحفار ومعجم الصحابة للبغوي وتاريخ ابن عساكر من طريق معتمر بن سلميان عن أبي بن كعب عن جده بقية عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح به حتى يمسي. وأخرجه الإمام أحمد في الزهد ثنا عفان ثنا عبد الواحد بن زياد عن يونس بن عبيد عن أمه قالت رأيت أبا صفية رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان جارنا قالت فكان يسبح بالحصى. وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلمي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مولاة لسعد أن سعدا كان يسبح بالحصى أو النوى. وقال ابن سعد في الطبقات أنا عبيد الله بن موسى أنا إسرائيل عن جابر عن امرأة حدثته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها. وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد في ؟ من طريق نعيم بن محرر ابن أبي هريرة عن جده أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به. وأخرج أحمد في الزهد ثنا مسكين بن نكير أنا ثابت بن عجلان عن القاسم بن عبد الرحمن قال كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفدن. وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة أنه كان يسبح بالنوى المجزع. وقال الديلمي في مسند الفردوس أنا عبدوس ابن عبد الله أنا أبو عبد الله الحسين بن فتحويه الثقفي ثنا علي بن محمد بن نصرويه ثنا محمد بن هرون بن عيسى بن المنصور الهاشمي حدثني محمد بن علي بن حمزة العلوي حدثني عبد الصمد بن موسى حدثتني زينب بنت سليمان بن علي حدثتني أم الحسن بنت جعفر بن الحسين عن أبيها عن جدها عن علي مرفوعا نعم المذكر السبحة. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يسبح بالحصى. وأخرج من طريق ابي نضرة عن رجل من الطفاوة قال نزلت على أبي هريرة ومعه كيس فيه حصى أو نوى فيسبح به حتى ينفد. وأخرج عن زادان قال أخذت من أم يعفور تسابيح لها فلما أتيت عليا قال أردد على أم يعفور تسابيحها”أ.هـ.ثم قال: “” فلو لم يكن في اتخاذ السبحة غير موافقة هؤلاء السادة ، والدخول في سلكهم ، والتماس بركتهم ، لصارت بهذا الاعتبار من أهم الأمور وآكدها “أ.هـ.وعلَّق الشوكاني رحمه الله تعالى على ذلك في: “نيل الأوطار”(2/366): “ وقد ساق السيوطي آثارًا في الجزء الذي سماه المنحة في السبحة وهو من جملة كتابه المجموع في الفتاوى وقال في آخره : ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون في ذلك مكروهًا” انتهى .وقال اللكنوي رحمه الله تعالى في:”نزهة الفكر”(ص/25) : “لاريب أن السبحة اتخذها جماعة من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم من جماعات الفقهاء والمحدثين،والمتصوفة الناسكين،واستحسنوها ولازموها،ولم يَرو أحد أنهم استقبحوها،وما كان كذلك فهو ليس بضلالة،بل هو حسن لا محالة،يقول ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا،فهو عند الله حسن.أخرجه أحمد والبزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم وغيرهم”أ.هـ المراد.
وأما الثانية: فكونه مخالفا للأدلة الشرعية،حيث دلَّ على شرعية السُّبحة دليلان:
*الأول: الحديث الشريف، ومنه حديث السيدة صفية رضي الله عنها أنها قالت : “دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن، فقال : يا بنت حيي ما هذا ؟ قلت: أسبح بهن، قال: قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا. قلت : علمني يا رسول الله ، قال : قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء“]رواه الترمذي في:”الجامع”(4/274)وغيره،وصححه الحاكم في:”المستدرك”(1/547) وقال:” هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وله شاهد من حديث المصريين بإسناد أصح من هذا“أ.هـ ووافقه الذهبي[ويشهد له حديث سيدنا سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل فقال سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك]رواه أبو داود في:”السنن”(2/80)والترمذي في:”الجامع”(5/562)وغيرهما.وصححه الحاكم في:”المستدرك”(1/732)وابن حبان –كما في:”الإحسان”(3/118)-[
قال ابن علان رحمه الله في:”شرح الأذكار النواوية”(1/251 ) : “قال ابن الجوزي : إن السبحة مستحبة، لما في حديث صفية أنها كانت تسبح بنوى أو حصى، وقد أقرها صلى الله عليه وسلم على فعلها، والسبحة في معناها؛ إذ لا يختلف الغرض عن كونها منظومة أو منثورة) انتهى.وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في:”شرح الأربعين النووية”(/) : ” السبحة ورد لها أصل أصيل عن بعض أمهات المؤمنين وأقرها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك“أ.هـ.وقال ملا علي القاري رحمه الله تعالى في: “مرقاة المفاتيح” (5 /221): “وهذا أصل صحيح لتجويز السبحة بتقرير فإنه في معناها إذ لا فرق بين المنظومة والمنثورة فيما يعد به ولا يعتد بقول من عدها بدعة وقد قال المشايخ أنها سوط الشيطان“أ.هـ.
*الثاني: القياس،وذلك بقياس السبحة على الأصابع،فعن يُسَيُرة بنتِ يَاسر رضي الله عنها، وَكَانَتْ إِحْدَى الْمُهَاجِرَاتِ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “ عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ ، وَالتَّقْدِيسِ ، وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ ، وَلا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ] “ رواه الترمذي في:”الجامع”( رقم/3583 ) وأبو داود في:”السنن” (رقم/ 1501 )وحسَّنه الحافظ ابن حجر في:”نتائج الأفكار”(/)[ جاء في “شرح المشكاة” لابن حجر-كما في: “الفتوحات الربانية في شرح الأذكار النواوية”(1/251 )-: “ويستفاد من الأمر بالعقد المذكور في الحديث: ندب اتخاذ السبحة، وزَعْمُ أنها بدعة غير صحيح، إلا أن يحمل على تلك الكيفيات التي اخترعها بعض السفهاء، مما يمحضها للزينة أو الرياء أو اللعب … “اهـ.
والله أعلم
تمت بحمد الله