عنوان: رد إنكار تقسيم الفقهاء البدعة لحسنة وقبيحة
بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
بسم الله الرحمن الرحيم
أنكر جمع تقسيم البدع عند الفقهاء لحسنة وسيئة، حتى قال الشاطبي رحمه الله في : “الاعتصام” (1/191ـ192) : “هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع ؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لَمَا كان ثَمّ بدعة ، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بـها أو المُخيَّر فيها . فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدل على وجوبـها أو ندبها أو إباحتها : جمع بين متنافيين” أ.هـ.
والمقرَّر عند الفقهاء أن في البدع ما هو سَيّء مذموم ، وما هو حَسَنٌ محمود ، وبه جزم أئمةٌ وعليه عملُ فقهاءُ المذاهب الأربعة، فقد أخرج أبو نعيم رحمه الله في “حلية الأولياء” (9/113) عن إبراهيم بن الجنيد أنه قال : سمعت الشافعي يقول : “البدعة بدعتان : بدعة محمودة ، وبدعة مذمومة . فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم” . وقال ابن الأثير رحمه الله في : “النهاية في غريب الحديث” (1/106ـ107): “البدعة بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال . فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله r ـ فهو في حَيِّز الذم والإنكار ، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه ، وحضّ عليه الله ورسوله : فهو في حَيِّز المدح” أ.هـ.
و(البدعة المحمودة) قد تكون واجبة أو مستحبة . و(البدعة المذمومة) قد تكون مُحَرَّمة أو مكروهة وقد يكون منها ما هو مباح . فتَحَصَّل دورانـها على الأحكام الخمسة ، لذا قال العز بن عبد السلام رحمه الله في : “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” (2/337) : “البدعة فعل ما لم يُعْهَد في عصر رسول الله r . وهي منقسمة إلى : بـدعة واجبة ، وبدعة مُحَرَّمة ، وبدعة مندوبة ، وبدعة مكروهة ، وبدعة مباحة . والطريق في معرفة ذلك أن تُعْرَض البدعة على قواعد الشريعة : فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة ، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي مُحَرَّمة ، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة ، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة ، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة” أ.هـ. وقال النووي رحمه الله في : “شرح مسلم” (6/154ـ155) :”قال العلماء : البدعة خمسة أقسام : واجبة ومندوبة ومحَرَّمة ومكروهة ومباحة” أ.هـ . وقال العلامة مرعي الكرمي رحمه الله في : “تحقيق البرهان” (ص/141) تعليقاً على كلمة : (وكل بدعة ضلالة) : “هذا الكلام ليس على إطلاقه ، بل قيَّده العلماء . قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى : تنقسم إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة “أ.هـ . وارتضاه الحافظ ابن حجر رحمه الله في : “فتح الباري” (13/253) بقوله : “وقَسّم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة ، وهو واضح”. وقد قال قبلُ (4/253) : “التحقيق : أن البدعة إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع هي مستقبحة ، وإلا فهي من قسم المباح” أ.هـ.
وأثبت تلك القسمة جَمْعٌ ممن أَلّف في (ذم البدعة) كأبي شامة رحمه الله في : “الباعث على إنكار البدع والحوادث” (ص/35) ، والسيوطي رحمه الله في : “الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع) (ص/89) وممن ألَّف في (القواعد) كالزركشي رحمه الله في : “المنثور في القواعد” (1/218) ، وابن جُزيّ رحمه الله في : “قوانين الأحكام” (ص/19) . وممّن ألَّف في (الفروق) كالقرافي رحمه الله في : “الفروق” (4/202ـ205) ، ومحمد علي بن الحسين المكي رحمه الله في : “القواعد السَّنية في الأسرار الفقهية” (4/217ـ فما بعد) . وممن أَلَّف في (الفتاوي) كابن حجر الهيتمي رحمه الله في : “الفتاوي الحديثية” (ص/150) ، والسيوطي رحمه الله في : “الحاوي” (1/192) ، وممن أَلَّف في (المصطلح) كالسخاوي رحمه الله في : “فتح المغيث” (2/327) ـ وغير ذلك كثير .
وأما قول التقي ابن تيمة رحمه الله في: “الاقتضاء” (1/93) عن حديث: “كل بدعة ضلالة” : “ولا يَحِل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله r الكلية ، وهي قوله : “كل بدعة ضلالة” بسَلْب عمومها ، وهو أن يقال : ليست كل بدعة ضلالة . فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل” أ.هـ . فمخالف للمعروف عند الفقهاء،حيث جعلوه من العام المخصوص، يقول الخطابي (ت/ 388 هـ)في: “معالم السنن”(4/301) : وقوله (كل محدثة بدعة) فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض، وهي كل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه ، وأما ما كان منها مبنيا على قواعد الأصول ومردودا إليها فليس ببدعة ولا ضلالة ، والله أعلم “أ.هـ.وقال النووي رحمه الله في: “شرح مسلم”(6/154) : “قوله: ((وكل بدعة ضلالة)) هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع ، قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق ، قال العلماء: البدعة خمسة أقسام ؛ واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة ، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك ، ومن المباح التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك ، والحرام والمكروه ظاهران ، وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة في ((تهذيب الأسماء اللغات)) فإذا عرف ما ذكرته علم أن الحديث من العام المخصوص وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة ، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة ، ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله ((كل بدعة)) مؤكدا بكل بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى {تدمر كل شيء{ “أ.هـ.
ولما كانت البدعة تقابل السنة في الإستعمال كانت مذمومة من هذا الوجه،خلافا لما كان مندرجا تحت أصل شرعي،أو دل عليه الدليل وحدث بعد زمن التشريع فبدعة غير سيئة،وسماها بعض بالبدعة اللغوية للتفرقة بينها وبين البدعة الشرعية؛لذلك يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في : “جامع العلوم والحكم” (2/291فما بعد) : “وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع : فإنما ذلك من البدع اللغوية لا الشرعية” أ.هـ .وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في: “فتح الباري”(4/318) : “ والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة ، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة ، وإلا فهي من قسم المباح ، وقد تنقسم إلى الأقسام الخمسة.“أ.هـ.
وعلى هذا التخريج الذي ذهب إليه جماعة-يصبح حديث: “كل بدعة ضلالة” على عمومه؛ لأن المراد به البدعة الشرعية التي لادليل عليها،يقول اللكنوي رحمه الله تعالى في: “تحفة الأخيار”(ص/123) : “ حديث ((كل بدعة ضلالة)) باق على عمومه ، وأن المراد به البدعة الشرعية ، وهي ما لم يوجد في القرون المشهود لهم بالخير ولم يوجد له أصل من الأصول الشرعية ، ومن المعلوم أن كل ما كان على هذه الصفة فهو ضلالة قطعا ، وإلى هذا القول مال السيد السند في (شرح المشكاة) والحافظ ابن حجر في (هدي الساري مقدمة فتح الباري) وفي (فتح الباري) وابن حجر الهيتمي االمكي في (الفتح المبين بشرح الأربعين) وغيرهم.” أ.هـ.
وعليه: فإن كتاب “الاعتصام” للشاطبي رحمه الله قد شذّ فيه عن مقرَّرات الفقهاء في البدعة وأحكامها، يقول السيد عبد الله الصديق الغماري رحمه الله تعالى في كتابه : “القول المبين”(ص/ ) : “قَسّم عز الدين ابن عبد السلام في قواعده الكبرى البدعة باعتبار استعمالها على المصلحة والمفسدة ، أو خُلُوّها عنهما إلى أقسام الحكم الخمسة : الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة ، ومَثّل لكل قسم منها ، وذكر ما يشهد له من قواعد الشريعة . وكلامه في ذلك كلام ناقد بصير ، أحاط خُبْراً بالقواعد الفقهية ، وعرف المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها . ومن مثل سلطان العلماء في معرفة ذلك ؟ فجاء تقسيمه للبدعة مؤسساً على أساسٍ من الفقه وقواعدِهِ متين ؛ ولذا وافقه عليه الإمام النووي والحافظ ابن حجر وجمهور العلماء تَلقّوا كلامه بالقبول ، ورأوا أن العمل به متعين في النوازل والوقائع التي تحدث مع تطور الزمان وأهله ، حتى جاء صاحب (الاعتصام) فخرج عن جمهرة العلماء ، وشَذّ بإنكار هذا التقسيم فَبَرْهَن بـهذا الإنكار على أنه بعيد عن معرفة الفقه ، بعيد عن قواعده المبنيَّة على المصالح والمفاسد لا يعرف ما فيه مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله ، ولا يَدْري ما فيه مفسدة فيطلب اجتنابـها بتركه ولا ما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء . وأخيراً برهـن على أنه لم يَتَذوَّق علم الأصول تذوقاً يمكّنه من معرفة وجوه الاستنباط ، وكيفية استعمالها ، والتصرف فيها بما يناسب الوقائع ، وإن كان له في الأصول كتاب (الموافقات) فهو كتاب قليل الجدوى ، عديم الفائدة ، وإنما هو بارع في النحو له فيه شرح على ألفية ابن مالك في أربعة مجلدات دَلَّ على مقدرته في علم العربية ، على أنا وإن كنا نعلم أن للشاطبي دراية بعلم أصول الفقه على سبيل المشاركة : فلا نشك في أن سلطان العلماء فيه أمكن ، وعلمه بقواعده أتم ، وقواعده الكبرى خير شاهد على ذلك” أ.هـ .
والله الموفق
تمت بحمد الله