بسم الله الرحمن الرحيم
ثمّة من يُقرِّر كون الناس على التوحيد بالفطرة،مستدلا بحديث: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصراه أو يمجسانه“،مع إيراده لنحو شرح الشمس ابن القيم رحمه الله في: “شفاء العليل”(1/302)لذلك! وذلك بقوله: “أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلي ؛ وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف , ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا“انتهى المراد من “فتح الباري”(3/293)
والفِطْرة (بكسر الفاء) هي الخِلْقة والجِبِلَّة -كما في: “تاج العروس”( 1/3347)-،إلا أن الإنسان يولد مُهيأً لقبول التوحيد والإسلام لكنه ليس محصِّلاً للتوحيد والإسلام، ودل على ذلك دلالتان:
أما الأولى: فقول الله تعالى ” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً” [ النحل/78ٍ]
( شيئاً) نكرة في سياق النفي فتعم على ما هو مقرر في الأصول.وهذا لا خلاف فيه، حتى أن التقي ابن تيمية رحمه الله قال –كما في: “مجموع الفتاوي”(4/247) : “ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل ؛ فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا“أ.هـ المراد.
وأما الثاني: فحديث الفطرة حيث خرجه مسلم في : ” الصحيح ” (16/322 – مع النووي ) من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ” كل انسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمحسانه. فإن كانا مسلمين فمسلم. كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في خصيه إلا مريم وابنها” حيث في قوله: ( فإن كانا مسلمين فمسلم) دليل على أن المولود غير محصل للإسلام والتوحيد.
وأما حديث الفطرة:” كل مولود يولد على الفطرة ” فمخرج في :” البخاري” ( برقم 1358 و 1359 و 1385 و 4775 و 6599) ومسلم ( برقم: 2658) وغيرهما من حديث سيدنا أبي هريرة (رضي الله عنه). وفيه يقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ” كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء” – فله معنى بينه الأئمة، ومنهم أبو العباس القرطبي (رحمه الله تعالى) – كما في:” فتح الباري” (3/249) حيث قال: “المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق. وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث حيث قال:” تنتج البهيمة ” يعنى: أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئاً من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً، فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع ،ووجهه واضح. والله أعلم،،،، ” ا.هـ.وقال التقي السبكي رحمه الله –كما في: “فتاوي السبكي”(2/360) – : “الذي نختاره وعليه أكثر العلماء ، أن المراد بالفطرة : الطبع السليم المهيأ لقبول الدين ، وذلك من باب إطلاق القابل على المقبول ، فإن الفطرة هي الخلقة ، يقال فطره : أي خلقه ، وخلقة الآدمي فرد من ذلك ، وتهيأ لقبول الدين وصف لها ، فهذه ثلاث مراتب ، وذلك المقبول وهو الدين أمر رابع ، فاسم الفطرة : أطلق عليه فكأنه قال : كل مولود يولد مسلماً بالقوة ؛ لأن الدين وهو الإسلام حق مجاذب للعقل غير ناء عنه ، وكل مولود خلق على قبول ذلك وجبلته وطبعه ، وما ركزه الله فيه من العقل لو ترك لاستمر على لزوم ذلك ولم يفارقه إلى غيره ، وإنما يعدل عنه لآفة من آفات البشر والتقليد ، كما يعدل ولد اليهودي وولد النصراني والمجوسي بتعليم آبائهم وتلقينهم الكفر لأولادهم ، فيتبعوهم ويعدلون بهم عن الطريق المستقيم الذي فطرهم الله عليه ، وأنعم عليه به”انتهى المراد.
وبالله التوفيق.
وكَتَبَ/
(صالحُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْمَرِيّ)
لَطَفَ اللهُ به
الدِّيارُ الحِجازِيَّةُ ببلادِ الحَرَمَين
حَرَسَها الله
تمت بحمد الله