عنوان: نقد حديث: “إن أبي وأباك في النار” رواية ودراية
بقلم: (الشيخ صالح بن محمد الأسمري)
بسم الله الرحمن الرحيم
تمسك بعض بحديث: “إن أبي وأباك في النار.” وقال بعدم نجاة والدي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وزعم أن الحديث نص في محل النزاع !
ويرد ذلك من جهتين :
– أما الأولى: فمن جهة الرواية، حيث إن لفظة: “إن أبي وأباك في النار.” من الحديث قد اختلف الرواة فيها يقول الحافظ السيوطي (رحمه الله تعالى) في “مسالك الحنفا” (ص / ) :” إن هذه اللفظة، وهي قوله: “إن أبي وأباك” – لم يتفق على ذكرها الرواة، وإنما ذكرها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس (رضي الله عنه) وهي في الطريق التي رواه مسلم منها، وقد خالفه معمر عن ثابت فلم يذكر: “إن أبي وأباك” ولكن قال: “إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار.” وهذا اللفظ لا دلالة فيه على والده (صلى الله عليه وسلم) بأمر ألبتة. وهو أثبت من حيث الرواية، فان معمرا أثبت من حماد، فإن حمادا تكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير، ذكروا أن ربيبة دسها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها، ومن ثم لم يخرج له البخاري، ولا خرج له مسلم في الأصول إلا روايته عن ثابت” أ.هـ. المراد
عليه فاختلاف الرواية للحديث متحقق، وحمل رواية حماد على أنها رواية بالمعنى متعين عند ترجيح الأخرى، مع كون حماد أثبت الناس في ثابت، يقول البرزنجي (رحمه الله تعالى) في “سداد الدين في نجاة الوالدين”(ص/221):”إن من له نصيب من فن الحديث، وحصل له فيه ذوق: يعلم ويتيقن أن رواية حماد رواية بالمعنى.” أ.هـ.
وموجب ترجيح رواية معمر شيئان:
أولهما: ما أخرجه البزار ( 3/299) و الطبراني (16/145) والبيهقي في الدلائل (1/191) عن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه أن أعرابيا قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): “أين أبي؟” قال: “في النار.” قال : “فأين أبوك؟” قال: “حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار.” ( وهذا اسناد على شرط الشيخين ) ، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ ، وتقديمه على غيره) قاله السيوطي (رحمه الله تعالى).
الثاني: ما زاده الطبراني والبيهقي في رواية الزهري، حيث أوردا زيادة: قال: فأسلم الأعرابي بعد. فقال: لقد كلفني سول الله (صلى الله عليه وسلم تعباً)، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.) وهي عند ابن ماجه ( رقم /1573) في “سداد الدين”(ص/218)، هذه الزيادة أوضحت بلا شك أن هذا اللفظ العام- أي : “حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار” الذي صدر منه (صلى الله عليه وسلم)، ورواه الأعرابي بعد إسلامه أمراً مقتضياً للامتثال، فلم يسعه إلا امتثاله. ولو كان الجواب اللفظ الأول- أي: “إن أبي وأباك”- لم يكن فيه أمر بشيء ألبتة. فعلم أن اللفظ الأول من تصرف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه. وقد وقع في “الصحيحين” روايات كثيرة في هذا النمط، فيها لفظ تصرف فيه الراوي، وغيره أثبت منه ” أ.هـ.
ويؤكده رواية أخرى للحديث-أخرجها الحاكم في: “المستدرك ” (4/560) وصححها عن لقيط بن عامر. وفيها: “قال: فقلت يا رسول الله، هل لأحد ممن مضى منا في الجاهلية من خير؟ فقال رجل من عرض قريش: إن أباك المنتفق في النار. فكأنه وقع حربين جلد وجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس الناس. فهممت أن اقول: وأبوك يا رسول الله، ثم نظرت فإذا الأخرى أجمل، فقلت: فأهلك يا رسول الله؟ فقال: ما أتيت عليه من قبر قرشي أو عامري مشرك فقل: أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوء، قال الهيثمي (رحمه الله تعالى) في “المجمع” (10/340) : رواه عبد الله والطبراني بنحوه وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات. أ.هـ.
وهذه الرواية ( لا إشكال فيها ، وهي أوضح الروايات وأبينها) ، (وذلك أنه صرح فيه بأن السائل أراد أن يسأل عن أبيه (صلى الله عليه وسلم) فعدل عن ذلك تجملاً وتأدباً) قاله السيوطي (رحمه الله تعالى).
والحاصل أن جمع روايات الحديث كاشف عما سبق؛ لذا يقول في: “سداد الدين:( ص /75)” قال بعض الحفاظ: “لو لم نكتب الحديث في ستين وجهاً ما عقلناه.” يعنى لاختلاف الرواة في الإسناد والمتن ، ولا يكون هذا قدحاً في صحة الحديث من أصله، بل في هذه اللفظة فقط … وقد وقع في “الصحيحين” أحاديث كثيرة من هذا النمط، ووهم فيها الرواة في بعض الألفاظ وبينها النقاد.”أ.هـ. المراد وأصل التقرير للحافظ السيوطي (رحمه الله تعالى)
وأما الثانية فمن جهة الدراية؛ حيث إن لفظة الأبوة في الرواية- أي إن أبي وأباك- تأتي على محملين:
<!–[endif]–>أولهما: محمل الأبوة غير الحقيقية. فيكون المراد عمه أبا طالب. قال ابن حجر الهيثمي (رحمه الله تعالى) في ( النعمة الكبرى ) ( ص/ ): “أما أبوه (صلى الله عليه وسلم) فيحتمل أنه أراد عمه وإنما قال ذلك فيه لمصلحة ايمانه بدليل أنه لم يتدارك ذلك إلا بعد أن قفى، فظهر له من حاله أنه ربما تعرض له فتنة فأتى بما هو من فن البلاغة اللائقة بباهر بلاغته، وهو المشاكلة على حد: “تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك.” و”ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.” و”وجزاء سيئة سيئة مثلها.” أ.هـ.
ويرشح هذا الحمل-كما في ” سداد الدين ” (ص/220) :”إن إطلاق الأبوة على أبى طالب كان شائعاً في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ لكونه عم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكونه رباه وكفله من صغره، وكان يحوطه ويحفظه وينصره؛ فكان مظنة السؤال عنه من السائل .
ومن دلائل شيوعه أن المشركين كانوا يقولون لأبي طالب: “قل لابنك يرجع عن شتم آلهتنا.” ولما سافر أبو طالب إلى الشام ومعه النبي (صلى الله عليه وسلم) نزل ببحيراء، فقال: “ما هذا منك؟ قال: هو ابني. فقال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً.”
ثم إن في خطاب الشارع ما يدل على استعمال الأبوة في العم، كقوله تعالى: “وإذا قال إبراهيم لأبيه أزر.” ]الأنعام أية (74)[ حيث إن (آزر) عم سيدنا إبراهيم (عليه السلام) وليس بأبيه حقيقة، قال السيوطي (رحمه الله تعالى) وليس بأبيه حقيقة، قال السيوطي (رحمه الله تعالى) في ” ” (ص/ ): “هذا القول ورد عن جماعة من السلف. أخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله (تعالى): “وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر…” قال: إن أبا إبراهيم (عليه السلام) لم يكن اسمه آزر، وإنما كان اسمه تارخ. وأخرج ابن أبي شيبه وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق بعضها صحيح عن مجاهد قال: ليس آزر أبا ابراهيم. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج في قوله تعالى: “وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر…” قال: “ليس آزر بأبيه إنما هو إبراهيم بن تيرخ- أو تارخ أو تاروخ-ابن شاروخ بن ناحور بن فالخ. وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن السدي أنه قيل له: اسم أبي إبراهيم آزر؟ فقال: اسمه تاروخ” أ.هـ. مع كون ابن حجر (رحمه الله تعالى) كما في (سداد الدين) (ص/244) قد قال: ” إن الأب يطلق على العم حقيقة.”
<!–[endif]–>والثاني: محمل الأبوة الحقيقية فجوابه ما ذكره السيوطي رحمه الله بقوله ثم لو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول – يعني: “إن أبي وأباك” – أي: وأن المراد به أبوه حقيقة لا عمه- كان معارِضاً بأن الحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويل وتقديم تلك الأدلة عليه كما هو مقرر في الأصول.” أ.هـ.
ومن الأدلة المشهورة على عدم دخول والدي المصطفى في النار كونهما من أهل الفترة، قال ابن حجر المكي (رحمه الله تعالى) في (شرح الهمزية) ) ص/ ) : الذي عليه أكثر أهل السنة والجماعه أنه لا يجب توحيد ولا غيره إلا بعد إرسال الرسل إليهم، ومن المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل (عليه السلام) ، وإن إسماعيل (عليه السلام) انتهت رسالته بموته، فلا فرق بين من غير وبدل وبين غيره ما عدا من صح تعذيبه ، فيقتصر ذلك عليه؛ لأنه لا قياس في ذلك. أ.هـ.
وعلق البرزنجي (رحمه الله تعالى) فى (( سداد الدين)) ( ص/66) بقوله : “التحقيق إن إطلاق اسم الفترة على جميع ذلك الوقت تغليب، وإن الفتره الحقيقية إنما هي بعد انقطاع شريعة الرسول لا بعد موته. ومعلوم أن من غير وبدل ما غير إلا وقد بلغه الدين الذي غيره وبدله صحيحاً من غير تبديل ولا تغيير فليس من أهل الفترة حقيقة، فليس بمعذور، وصحة الإيمان ليس من شرطها حياة الرسول بل شرطها عدم نسخ الشريعة.” أ.هـ. المراد.
وإذا تقرر نقد لفظه: “إن أبي و أباك في النار.” فلا ينبغي الوقوع في إطلاق الكفر على والدي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بل الواجب الحذر منه؛ لأنه قد يؤذي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ،يقول الحافظ القسطلاني (رحمه الله تعالى) في: ” المواهب ( / ) :” الحذر الحذر من ذكرها بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه أو وبوصف وذلك الوصف فيه نقص : تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم): ” لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات.” رواه الطبراني في “الصغير” ولا ريب أن إيذاءه (صلى الله عليه وسلم) كفر يقتل فاعله عندنا إن لم يتب.” أ.هـ. ويقول ابن حجر الهيثمي (رحمه الله تعالى) في “النعمة الكبرى” ( ص/ ) :”احذر أن تروغ عن القول بنجاتهما. فإنه (صلى الله عليه وسلم) حذرك من ذلك بقوله لما اشتكى اليه عكرمة (رضي الله عنه) أن الناس يسبون أبا جهل:” لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات.” رواه الطبراني في : (الصغير) : قال : “فالخوض في ذلك على خلاف ما قلنا- يعني : القول بنجاة والدي المصطفى- ربما يؤذيه (صلى الله عليه وسلم)، وإيذاؤه كفر يراق به دم قائله، فعلى العاقل أن يصرف نفسه عن هذه الورطة الصعبة التي قد تقضي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.” أ.هـ وأورد الطبري (رحمه الله تعالى) في : “ذخائر العقبى” عن أبى هريرة (رضي الله عنه) قال: جاءت سبيعة بنت فقالت: يارسول الله إن الناس يقولون: أنتِ بنت حطب النار، فقال (صلى الله عليه وسلم وهو مغضب: “ما بال أقوام يؤذون قرابتي؟! من آذى قرابتي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله.”
قال الحافظ ابن حجر (رحمه الله تعالى) في “الإصابة” (4/298) بعد ذكره لرواية أنها درة أو سبيعة -: يحتمل أن يكون لها اسمان، أو أحدهما لقب، أو تعددت القصة لامرأتين…” أ.هـ.
هذا والله اعلم ،،،
– تمت بحمد الله –